آخر الأخبارسلايدمقالات الرأي

أزمة توقعات

يصعب على أي اقتصادي او محلل أو استشاري حاليا أن يتوقع مستقبل الاقتصاد العالمي في ظل ما يشهده العالم من تطورات. فالحرب في أوكرانيا ليست مجرد عمل عسكري روسي ضد أوكرانيا، بل هي أزمة أوسع كثيرا لا يقتصر تأثيرها على الاتحاد الروسي وأوروبا بل يطال العالم كله.

صحيح أن الحرب التي جاءت مع بداية خروج العالم من أزمة وباء كورونا أحدثت اضطرابا في كل الحسابات في مختلف مجالات النشاط البشري حول العالم، لكن ما صحبها من عقوبات اقتصادية موسعة على روسيا والضغط على الصين جعل الاضطرابات في الجانب الاقتصادي أشد وطأة.

يقول المثل “كذب المنجمون ولو صدقوا”، لكن المحللين والاستشاريين في المؤسسات الاقتصادية والمالية الكبرى حول العالم ليسوا “منجمين” تماما. فهم لديهم نماذج توقع وبرامج كمبيوترية “ذكية” يدخلون فيها البيانات والاحتمالات ويخرجون بتوقعات. أي أن الأمر أقرب لعملية حسابية مع الأخذ في الاعتبار المتغيرات المتوقعة. مع ذلك، هناك أزمة حقيقية يشهدها هذا المجال منذ ما قبل وباء كورونا وأصبحت الآن أكثر حدة. ينسحب ذلك على الكل تقريبا، من المؤسسات الكبرى كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها إلى وحدات البحوث والتحليلات في البنوك الاستثمارية والمؤسسات المالية، وما بينها مؤسسات اقليمية وقطرية وبنوك مركزية.

هذا الشهر، اعتذر رئيس منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي التي تقدم المشورة الاقتصادية لعشرات الدول الصناعية الكبرى عن إصدار تقرير مستقبل الاقتصاد الدوري كالمعتاد. وقال إن منظمته ليست في وضع يسمح لها بالتوقع في ظل الظروف الحالية – يقصد الحرب في أوكرانيا. أما صندوق النقد الدولي مثلا، الذي يصدر تقريرين في العام عن توقعات أداء الاقتصاد العالمي، فقد عدل تقريره الأخير الذي صدر في أكتوبر العام الماضي وتوقع نموا للناتج المحلي الاجمالي العالمي في حدود 5 في المئة ليخفض ذلك التقدير بداية هذا العام إلى ما بين 3 و3.5 في المئة. وسيصدر الصندوق تقريره نصف السنوي الشهر القادم متضمنا مزيدا من التخفيض لتوقعات نمو الاقتصاد العالمي ربما لأقل من 3 في المئة.

بالطبع، لا يمكن أن تكون التوقعات، اي توقعات، دقيقة تماما ذلك أنها تقدر نتائج استنادا لبيانات محددة ممزوجة بمتغيرات محتملة. وتلك التغيرات المحتملة قد تأتي بشكل مغاير تماما وأشد أو اقل مما يتم إدخاله من بيانات ومعلومات في برامج النماذج الاليكترونية التي تعطينا السيناريوهات المتوقعة. لكن في السابق كان حجم المعلومات شبه الأكيدة أكثر من التغيرات المحتملة. أما الآن فالتغيرات المحتملة تكاد تكون القاعدة ما يسبب أزمة حقيقية لكل من يعملون في مجال التوقعات الاقتصادية.

في العام الماضي، كان موقف البنوك المركزية في أغلب الدول الكبرى أن موجة التضخم في الاقتصاد وارتفاع الأسعار “مؤقتة” و”انتقالية” ونتيجة المقارنة مع فترة الركود في عز أزمة وباء كورونا والانتعاش الاقتصادي مع الخروج من الأزمة. وبالتالي وضعت تلك البنوك السياسة النقدية للدول على أساس أن النمو الاقتصادي يقلل من اثر التضخم وأن الأسعار ستعود للاستقرار. لكن ما حدث أن التضخم استمر وتصاعد، وبالتالي عاد الكل إلى تشديد السياسة النقدية هذا العام بعدما اعترفوا أنهم أخطأوا التقدير.

ثم جاءت حرب أوكرانيا لتدفع التضخم إلى مزيد من الارتفاع، مع زيادة اسعار الطاقة والغذاء حول العالم، وبدأت مؤشرات على الركود الاقتصادي المحتمل تظهر في دول كبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا. ناهيك طبعا عن دول أوروبا وحتى الصين التي كانت تمثل قاطرة النمو الاقتصادي العالمي. ليس ذلك فحسب، بل عاد انتشار وباء كورونا بقوة في الصين وعادت إغلاقات الاقتصاد بما يمكن أن يقضي على فرص استمرار النمو في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.

رغم التأثير الواضح لحرب أوكرانيا، وقبلها أزمة وباء كورونا، إلا أن هناك خللا أساسيا في عملية التوقعات والتقديرات الاقتصادية في السنوات الأخيرة. يعود ذلك إلى ما قبل الأزمة المالية العالمية في 2008 – 2009، وهو أن النماذج نفسها لم تعد تصلح مع التغيرات الجذرية التي يشهدها الاقتصاد العالمي. هذا بالاضافة إلى أن مشاكل جذرية في النظام العالمي كله لم يتم التصدي لها بجدية، وإنما اعتمدت السياسات بشكل عام على علاج الأعراض بالوصفات التقليدية ما أدى إلى تفاقم تلك المشاكل الجذرية. الأمر يشبه إلى حد كبير “طفرة المتحورات”، بمعنى أن النظام الاقتصادي والمالي العالمي الآن لم يعد كما كان في بداية هذا القرن مثلا. ولا مكن بالتالي التعامل مع الطفرة الجديدة بذات الأسلوب القديم.

أيضا، لم يعد ممكنا التوقع والتقدير بالمعايير ونماذج السيناريوهات ذاتها. وليس الأمر من قبيل ترف “معرفة الحظ”، إنما تلك صناعة كاملة تقوم عليها خطط وسياسات اقتصادية ومالية للدول والأقاليم والعالم كله. هناك مفارقة غريبة فعلا، هي أن الأسواق المالية (الأسهم والسندات والمشتقات المالية بما فيها العملات المشفرة) تبدو متجاهلة تماما لحرب أوكرانيا كما فعلت في ظل أزمة وباء كورونا. فبغض النظر عن تقلبات الصعود والهبوط، يبدو المنحنى العام في المتوسط لمؤشرات الأسواق الرئيسية باتجاه الصعود دوما. هل تتجاهل الأسواق نصائح صناعة التوقعات؟ هل تعتمد فقط على “حدس” المستثمرين؟ أم ماذا؟

أتصور أن السبب الأرجح هو تلك الوفرة الهائلة من الفائض المالي الرهيب في النظام العالمي، وهو فائض “غير حقيقي”، أي مجرد أرقام على الورق غير مدعومة بأصول حقيقية. ووصل حجم فقاعة الغليان المالي تلك إلى تريليونات الدولارات تشجع على مغامرات تزيد من الغليان وانتفاخ الفقاعة. وما لم تتبخر تلك التريليونات الوهمية من النظام، لن يتمكن المحللون والاقتصاديون والاستشاريون من القيام بعملهم في التوقع والتقدير السليم.

نقلًا عن سكاي نيوز عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى