مقالات الرأي

الإخوان و«القضية الفلسطينية»: أكذوبة القرن

د. عبدالحق الصنايبي

أعقبت القرارات السيادية التي أعلنتها بعض الدول العربية والمرتبطة بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل ردات فعل عكسية لدى تيار الإسلامي السياسي والذي ركب، كعادته، موجة القضية الفلسطينية لمحاولة الحشد لخطاباته الإيديولوجية ودغدغة اللا شعور الجماعي للعرب والمسلمين حول هذه القضية وإشعال مشاعر العداء ضد «بعض» هذه الدول وخاصة الإمارات العربية المتحدة لتصفية حسابات وجودية مع هذه الدولة على اعتبار أن أبو ظبي كانت لها اليد الطولى في إسقاط المشروع الإخواني في المنطقة وفضح الوجه الخبيث لهذا التنظيم الباطني الذي جر بعض الدول العربية إلى أتون العنف والإرهاب وكرَّس ثقافة الانقلاب لينتج لنا واقعا مؤلما ومشاهد مرعبة لصور الجثث والدماء والأشلاء والتي كانت نتيجة حتمية لفتاوى القتل والإرهاب التي انبرى لها شيوخ التنظيم من فوق المنابر ومن وراء منصات تخصصت في تبني خطابات العنف والكراهية وصناعة الموت.

في هذا السياق، اجتهد التنظيم الإرهابي لجماعة الإخوان «المسلمين» في تقديم نفسه كحامل لواء الدفاع عن القضية الفلسطينية وقام بإيهام البسطاء من الشعوب العربية بأنه قدم في سبيل ذلك الغالي والنفيس. كما رفع الإخوان شعارات من قبيل «على القدس رابحين شهداء بالملايين» والتي تم استغلالها في عمليات التعبئة والحشد خاصة وأن القيادات الإخوانية ربطت تاريخ الجماعة ارتباطا روحيا وعقديا بالقضية الفلسطينية واعتبرت أن ما قدمه التنظيم للقضية لم يقدمه أي كيان سياسي أو تنظيم حزبي أو حركة دعوية.

أمام هذه الادعاءات نجدنا مضطرين للإجابة عن السؤال الذي استقيناه من إحدى العبارات التي اشتهرت بها قناة الجزيرة والتي تقول: «فإلى أي حد صدَّق التاريخ هكذا قول؟؟؟؟».

إن الجواب على هذا السؤال يفرض علينا تأصيلا تاريخيا وعلميا لعلاقة الإخوان المسلمين بالقضية الفلسطينية، وهو التأصيل الذي سيميط اللثام حول نوع هذه العلاقة وهل فعلا ساهم التنظيم الإخواني في نصرة هذه القضية أم أنها ظلت، بالنسبة له، أداة للحشد والتعبئة فقط دونما الحاجة إلى التحرك على الأرض لمحاولة رفع الظلم والبؤس والحرمان عن أهل تلك الديار؟ خاصة وأن اجترار الحديث عن فلسطين والقدس الشريف من طرف الإخوان غالبا ما تزامن مع استحقاق انتخابي أو استفتاء رئاسي أو تصفية حسابات مع دولة تصنف من طرف هذه التنظيمات في خانة «العدو الوجودي»، وذلك قصد استغلال المشترك العقدي لخدمة أجندات سياسية بعيدا كل البعد عن الانضباط للطرح العقدي الذي تزعمه هذه التنظيمات.

إن البحث بين تراب المخازن جعلنا نقف على مجموعة من الشهادات والاعترافات التي تقطع بأن تعاطي جماعة الإخوان «المسلمين» مع القضية الفلسطينية كان تعاطي انتهازي وبراغماتي بعيدا عن الانضباط للطرح الديني والالتزام العقدي وبأن الاتجار بالقضية الفلسطينية إنما هو جزء من التجارة بالدين الذي اتخذه التنظيم الإرهابي كاستراتيجية ثابتة لخدمة مشاريع التمكين السياسي منذ تأسيس الجماعة سنة 1928م.

ولعل إعادة تناول تاريخ جماعة الإخوان بمنطق النقد الأكاديمي والتمحيص الموضوعي يجعلنا نطمئن إلى أن هذا التنظيم الباطني استغل القضية الفلسطينية لأهداف الانتشار الشعبي والتسليح الذاتي، ولم تكن يوماً ما على رأس أجندته «الجهادية»، وهنا نضع بين يدي القارئ شهادة لأحد قيادات التنظيم ومن المؤسسين الفعليين للجهاز السري للجماعة وهو أحمد عادل كمال، والذي يروي في كتابه «النقط فوق الحروف» عن خطة التنسيق مع مفتي فلسطين في حالة القبض على أعضاء التنظيم أثناء تدربهم على السلاح في جبال المقطم فيقول: «وحتى هذه الحالة كان هناك إعداد لمواجهتها. أجاب إخواننا المقبوض عليهم بأنهم متطوعون لقضية فلسطين. وفي نفس الوقت كانت استمارات بأسمائهم تحرر في مراكز التطوع، كما تم ربط الاتصال بالحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس الهيئة العربية العليا وشرحنا له الوضع على حقيقته، وكان متجاوباً معنا تماماً فأقر بأن المقبوض عليهم متطوعون من أجل فلسطين وأن السلاح سلاح الهيئة. وبذلك أُفرج عن الإخوان وسلم السلاح إلى الهيئة العربية العليا».

لقد استغل الإخوان القضية الفلسطينية من أجل التسلّح والاستعداد لإسقاط النظام المصري من الداخل، حيث تقطع مجموعة من الشهادات بأن هذا التنظيم وصل إلى أوج قوته سنوات 1947/1948م إلى درجة أن الدولة كانت تخشى مواجهته. ويروي المؤرخ محسن محمد في كتابه «من قتل حسن البنا؟» الصفحة 378 ما نصه «وفي 20 فبراير 1948 وقع انفجار عنيف في المركز العام للإخوان سُمع صداه في كل أنحاء العاصمة. ورغم ذلك فإن تسعة فقط أصيبوا ولم يكن المرشد العام في مقر الجماعة». ويضيف مؤلف الكتاب في نفس الصفحة «وتبين أن أسلحة ومتفجرات نقلت من أحد الفنادق قبل أن يداهمه رجال الشرطة إلى المركز بموافقة الشيخ البنا الذي قال إن اثنين من الفلسطينيين جاءا بالأسلحة وأنها لتحرير فلسطين. واتصل المرشد بالحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين طالبا إليه التدخل فأفرج عن الإخوان وسلمت الشرطة الأسلحة للهيئة العليا لفلسطين التي أعادتها بعد ذلك للفدائيين أي للنظام الخاص». ويحيل المؤلف على أحد تقارير السفارة البريطانية حول الحادثة والذي يقول «رضيت سلطات الأمن المصرية بتفسير أن الأسلحة لفلسطين أو تظاهرت هذه السلطات بالاقتناع».

وفي الوقت الذي جند فيه الإخوان «المسلمين» ومفتي فلسطين أزيد من 55 ألف مواطن عربي مسلم منهم أزيد من 15 ألف إخواني مصري للقتال ضمن صفوف قوات المحور في الحرب العالمية الثانية والذين أطلق عليهم «إخوان النازي»، لم يتكرم الإخوان على القضية الفلسطينية إلا بألفين متطوع من الصف الثاني للجماعة (ثلاثة كتائب) ولم تقدم الجماعة أي شهيد من قيادات التنظيم الخاص المعتبرة. هذا المعطى تؤكده شهادة عبدالمجيد حسن قاتل رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي باشا، حيث يصرح في محاضر القضية بالقول: «بدأت مشكلة فلسطين تأخذ دوراً جدياً، واعتقدت كما اعتقد جميع أفراد النظام الخاص أن وقت الجهاد الذي من أجله نعد وندرب قد جاء، وإننا سنُرسَل جميعاً إلى فلسطين للقتال هناك، وكانت القيادة تبلغنا أن الوقت سيأتي قريباً للجهاد، وأن الغرض من إعداد الفرق هو أن تجاهد في فلسطين بعد تدريب أفرادها على استعمال السلاح…ولما شعرت القيادة بشدة الضغط عليها، قالت لنا: إن الجهاد ليس مقصوراً على فلسطين، وإن الصهيونيين ليسوا فقط في فلسطين، وإنما هم موجودون أيضاً داخل البلاد المصرية، وإن على النظام الخاص أن يوجه إليهم نشاطه وجهاده». (د. عبد العظيم رمضان «الإخوان المسلمون والتنظيم السري». ص 71/72).

إن الثابت عند الخبير في شؤون التنظيم الإخواني، أن من أُرسلوا إلى فلسطين سنة 1948 كانوا من الإخوان المتحمسين الذين لم يسبق لهم أن تدربوا لا في الجوالة ولا في التنظيم الخاص، حيث تكفلت الحكومة المصرية بتدريبهم، ولا علاقة لهم بالجناح العسكري الذي أسسه حسن البنا وترأسه عبدالرحمن السندي، والذي ركز هجماته على الداخل المصري من خلال استهداف الخصوم السياسيين ورموز الدولة المصرية.

ختاما يمكن القول بأن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال حصان طروادة الذي يتم الركوب عليه من طرف الإخوان لتهييج مشاعر البسطاء وتوسيع قاعدة الأتباع والتجذر في المواقف خدمة لأهداف التنظيم السياسية ومواصلة مشاريع الانتشار الأفقي والاختراق المؤسساتي للوصول إلى ما يصطلح عليه في أدبيات التنظيم بـ «مرحلة التمكين».

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى