مقالات الرأي

حادثة المنشية: محاولة إرهابية أم مسرحية ناصرية (2/4)

في الحلقة السابقة من هذا الملف الذي أفرده موقع «صوت الدار» للحديث عن محاولة اغتيال الرئيس المصري جمال عبد الناصر فيما عرف إعلاميا ب «حادثة المنشية»، تم التطرق إلى طبيعة العلاقة بين تنظيم الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين، وهي العلاقة التي اتسمت بالتناغم والتماهي حول الهدف السياسي الأسمى لدى الطرفين والمتمثل في إنهاء حكم فاروق الأول.

في هذا السياق، فإن التفاهمات التي تم عقدها بين الطرفين لم يكن الغرض منها اقتسام السلطة وإنما هو تعبير عن تحالف مرحلي سيتم التنصُّل منه على مستوى حسم السلطة السياسية. هذا المعطى يجد ما يسنده في مباركة الإخوان، من وراء الستار، لمبادرة الضباط الأحرار للقيام بالانقلاب على الحكم فيما ظلوا هم يترقبون مآلات الوضع واتجاهات موازين القوى لبلورة القرار السياسي على ضوء تقديرات الموقف الجديدة.

ولعل استماتة الإخوان في التأكيد على مشاركتهم في “ثورة” 23 يوليوز 1952، تدحضها الوقائع والأحداث وتفندها المعطيات على الأرض، وذلك للاعتبارات التالية:

أولا: التحالف القوي والاستراتيجي للجماعة مع الملك فاروق والذي جسده الاجتماع الشهير سنة 1951 بين هذا الأخير وبين المرشد الثاني للجماعة المستشار حسن الهضيبي والذي وصف زيارته للملك فاروق بأنها “زيارة كريمة لملك كريم.

ثانيا: عدم ثقة الإخوان بنجاح المشروع العسكري لجمال عبدالناصر مما جعل المرشد العام للجماعة يبتعد بنفسه عن مجريات الأمور ويعتكف بالإسكندرية طيلة الثلاثة أيام التي أعقبت الانقلاب، حيث ظل مختفي في فيلا في الاسكندرية تحت اسم مستعار حسن صبري، ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد تأكده من أن الأمور حُسمت لصالح الضباط الأحرار.

ثالثا: تبنيهم، كالعادة، للمنطق الاستراتيجي للـ«منطقة الرمادية»، حين عبروا عن ولائهم المطلق للمؤسسة الملكية، مع إرسال إشارات قوية للضباط الأحرار بمباركة أي انقلاب مرتقب ووعدوهم بالتحالف معهم في حالة نجاح الانقلاب.

على هذا المستوى من التحليل، يمكن القول بأن مظاهر التعامل البراغماتي لجماعة الاخوان المسلمين مع حركة الضباط الأحرار الذي كشف جوانب من خبثهم السياسي المتأصل، إلا أنه لم يصل إلى مستوى الفهم السيكولوجي للعقلية العسكرية والبنية السلوكية لجمال عبد الناصر. وهنا حاولت الجماعة الاستيلاء على السلطة عبر اعتماد مجموعة من التكتيكات المرحلية يمكن بسطها كما يلي:

التكتيك الأول: مباشرة بعد نجاح الانقلاب طالب الإخوان المسلمين جمال عبدالناصر بضرورة تسليمهم السلطة على اعتباره عضوا في الجماعة وتلزمه الطاعة المطلقة للمرشد العام للجماعة ويكفيه فخرا ما قام به للوطن وللدعوة وللإسلام. (ملاحظة: تقطع الشهادات الإخوانية بأن عبد الناصر انفصل عن الإخوان قبل ذلك بسنوات).

التكتيك الثاني: بعدما يئس الإخوان من إمكانية تنازل جمال عبدالناصر عن السلطة لمصلحتهم، لجؤوا إلى تكتيك أكثر خبثا ودهاءا، فدفعوا، من جهة بضرورة حل جميع التنظيمات الحزبية على اعتبار أنها تنتمي إلى العهد البائد والنظام السياسي الفاسد الذي كان الملك فاروق رمزاً له، ومن جهة أخرى حاولوا اختراق مجلس قيادة الثورة وإحداث شرخ على مستوى القيادة من خلال دعم الرئيس محمد نجيب وتأييده ومهاجمة جمال عبد الناصر وانتقاد سياساته.

وهنا يتدخل منظر الثورة سيد قطب ليقوم بالتنظير والتجييش لحل جميع الأحزاب السياسية عبر مقالاته الحماسية التي نشرها في مرحلة ما بعد الثورة. وهنا نشير للمقال الذي نشره سيد قطب في مجلة روز اليوسف –عدد 29 شتنبر 1952- والذي يقول فيه سيد قطب «لم يخب ظني في هذه الأحزاب القديمة التي قامت في ظل ثورة سنة 1919. كنت أُدرك أنها أحزاب انتهت، تجمدت، فقدت القدرة على الحركة والتماشي مع التطورات الجديدة، فلم تعد صالحة للبقاء ولا قابلة للبقاء».

ولعل مجلس قيادة الثورة كان يُمَنِّي النفس بحل الأحزاب السياسية، فوجد في كتابات سيد قطب، المستند الفكري والمصوغ الشرعي لحلها، وبالفعل أصدر محمد نجيب القائد العام ورئيس الوزراء قراره بحل الأحزاب السياسية بتاريخ 16 يناير 1953م.

لقد اعتبر الإخوان المسلمين حل الأحزاب السياسية واستثناءهم من هذا القرار فرصة لفرض وصايتهم على قرارات مجلس قيادة الثورة، حيث التقى وفد منهم مع جمال عبد الناصر، بعد يوم على قرار الحل، وطلبوا منه أن تخضع جميع قرارات مجلس قيادة الثورة لرقابة مكتب الإرشاد لدراسة مدى مطابقتها للشريعة الإسلامية. هذا الطلب قابله جمال عبد الناصر برفض قاطع على اعتبار أن الثورة هي ملك لكل المصريين ولا يمكن أن تكون تحت وصاية أي طرف كان.

على إثر ذلك، سيقوم الاخوان المسلمين، في الجزء الثاني من الخطة، بدعم الرئيس محمد نجيب والرفع من شعبيته ومحاولة السيطرة عليه في مواجهة جمال عبد الناصر، وهذه الخطوة التصعيدية من طرف الإخوان كانت بمثابة النهاية العملية لعلاقة جمال عبد الناصر بالإخوان.

في هذا الصدد، وبعد قيام محمد نجيب بتقديم استقالته من رئاسة الجمهورية ومجلس قيادة الثورة في 25 من فبراير سنة 1954، خرجت مظاهرات حاشدة من تنظيم وتأطير الإخوان المسلمين تنادي بضرورة عودة محمد نجيب إلى السلطة، واستمرت المظاهرات إلى غاية يوم 28 فبراير حين رضخ جمال عبد الناصر لمطالب المتظاهرين ووافق على عودة محمد نجيب لمباشرة مهامه كرئيس للجمهورية، فقام حينها عبد القادر عودة القيادي في جماعة الاخوان المسلمين بالصعود، رفقة محمد نجيب، إلى شرفة قصر عابدين وقام بتهدئة الجماهير من خلال خطبة نارية معلنا من خلالها عودة محمد نجيب إلى الحكم.
إن قرارات مارس وما أعقبها من ارتدادات سياسية وشعبية ستدفع بجمال عبد الناصر، المتحكم في الآلة الإعلامية عن طريق رفيقه في مجلس قيادة الثورة صلاح سالم، إلى حشد التأييد الشعبي حول شخصه وساعده في ذلك مجموعة من القرارات التي تم اتخاذها في قطاعات الإصلاح الزراعي والتعليم والصحة، قبل أن يطلق رصاصة الرحمة على حلف محمد نجيب/الإخوان بإعلان توقيع اتفاقية الجلاء مع البريطانيين، وهو ما دفع التنظيم الخاص للإخوان المسلمين إلى التحرك بسرعة للقضاء على عبد الناصر باعتباره مركز ثقل الحكم في مصر، وأن القضاء عليه من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه لحكم الإخوان لمصر (الفكرة بلورها هنداوري دوير ونفذها التنظيم الخاص بزعامة يوسف طلعت).

إن العودة إلى محاضر جلسات مجلس الشعب التي خصصت لمحاكمة المتورطين في محاولة اغتيال جمال عبدالناصر بتاريخ 26 أكتوبر 1954م، تعطينا صورة واضحة حول المخطط الانقلابي الذي حاولت أن تتبناه جماعة الإخوان من خلال تطابق جميع الشهادات الإخوانية من قيادات الصف الأول حول ضرورة تصفية جمال عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة بالتزامن مع تحرك الإخوان على الأرض لدعم الانقلاب وإصدار محمد نجيب لبيان رئاسي يهدئ من خلاله من الاحتقان الشعبي في أفق تحييد هذا الأخير وتنصيب حكومة إخوانية خالصة. كل هذه المعطيات سنتطرق إليها في الحلقة القادمة من هذا الملف.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى