مقالات الرأي

حادثة المنشية: محاولة إرهابية أم مسرحية ناصرية (4/3)

د. عبد الحق الصنايبي

رأينا في الحلقة السابقة كيف فشلت جميع محاولات التنظيم الإخواني لسحب البساط من تحت أقدام جمال عبد الناصر وسقط مخططهم للركوب على «حركة» الضباط الأحرار والتي لم يشارك فيها الإخوان لا من قريب ولا من بعيد ولم يُعرف لهم أي دور يذكر في جميع مراحل التحضير والتنفيذ اللهم بعض التفاهمات القبلية مع عبد الناصر وحضور محتشم لعبد المنعم عبد الرؤوف بمبادرة شخصية منه، وأيضا مشاركة حسين محمد أحمد حمودة المحدودة والذي اعترف في كتابه «أسرار حركة الضباط والأحرار والإخوان المسلمون»، بأنه انفصل عن الجماعة منذ سنة 1948م.

في ظل هذا الصراع المعلن بين جماعة الإخوان المسلمين وجمال عبدالناصر، كان النظام الخاص للجماعة، الذي يرأسه آنذاك يوسف طلعت، يدبر لطريقة للتخلص من جمال عبدالناصر. وهنا قام الجهاز السري بتكليف هنداوي دوير القيادي الإخواني البارز من أجل نسج خطة محكمة لاغتيال جمال عبد الناصر. وبالفعل قام هذا المحامي المتهور بتجنيد شخص يدعى محمود عبد اللطيف، وهو أحد أبطال الرماية، من أجل اغتيال جمال عبدالناصر بمناسبة إلقائه لإحدى خطبه بميدان منشية البكري بالإسكندرية في 26 من أكتوبر سنة 1954.

وقائع الجريمة

بينما كان جمال عبدالناصر يخطب في حشد كبير من المصريين بميدان المنشية بمناسبة الاحتفال بتوقيع اتفاقية الجلاء التي وقعتها مصر مع بريطانيا بتاريخ 19 أكتوبر 1954، أطلق عليه شخص ينتمي للتنظيم الخاص لجماعة الإخوان «المسلمين» ويدعى محمود عبداللطيف ثمان رصاصات، غير أنها أخطأت هدفها لتستقر إحداها في رأس الميرغني حمزة زعيم الطائفة الختمية بالسودان وأحد ضيوف الحفل ليلقى مصرعه في الحال كما أصابت رصاصة أخرى كتف أحمد بدر سكرتير هيئة التحرير في الإسكندرية فأدت إلى وفاته، فيما باقي الرصاصات استقرت في سقف المبنى الذي كان يخطب فيه جمال عبدالناصر. حاول محمود عبد اللطيف الفرار من مكان الجريمة، غير أن المواطنين والبوليس الحربي تمكنا من إلقاء القبض عليه بالإضافة إلى خليفة عطوة المتهم السادس في جريمة الاغتيال وأنور عبد الحافظ اللذان كانا في مسرح الحادث.

وحيث إن أوقات الأزمة غالبا ما تكون مناسبة لإصدار قرارات حاسمة قد يصعب اتخاذها في الظروف العادية، فقد شكل حادث المنشية فرصة لجمال عبدالناصر لقصم ظهر الإخوان من خلال عمليات اعتقال واسعة همت منفذي العملية والمخططين لها بالإضافة إلى المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبي. ومن بين من شملهم الاعتقال نذكر كل من محمود عبد اللطيف (منفذ العملية)، هنداوي دوير (المخطط الرئيسي)، محمد فرغلي، يوسف طلعت (رئيس التنظيم الخاص)، المستشار عبدالقادر عودة، صالح أبو رقيق، ابراهيم الطيب، عبد المنعم عبدالرؤوف، منير الدلة، كمال خليفة، سيد قطب، عمر التلمساني، صالح عشماوي، وغيرهم من الوجوه الإخوانية في ضربة أمنية لن ينهض منها الإخوان إلا مع وفاة جمال عبد الناصر سنة 1970 وتولي محمد أنور السادات رئاسة الجمهورية.

في التحقيقات التمهيدية، اعترف محمود عبد اللطيف بالمنسوب إليه وبالمتورطين معه في محاولة الاغتيال، كما اعترف باقي الإخوان باشتراكهم في هذه المحاولة الإرهابية إما فعليا أو عن طريق إعطاء تعليمات ومعلومات أو عن طريق تسهيل محاولة الاغتيال، فيما اتهم آخرون بعدم التبليغ بالمحاولة مع علمهم بتفاصيلها وتاريخ تنفيذها. وبهذا أصدرت محكمة الثورة أحكامها بإعدام ستة أعضاء من التنظيم وهم: محمود عبداللطيف، محمد فرغلي، يوسف طلعت، ابراهيم الطيب، هنداوي دوير، عبدالقادر عودة، بالإضافة إلى المرشد العام حسن الهضيبي الذي خُفّف عنه الحكم إلى المؤبد.

شهادات إخوانية:

رغم أن «الإخوان المسلمين»، وكعادتهم، ينكرون أي تورط لهم في محاولة الاغتيال ويعتبرونها مجرد «مسرحية» بطلها جمال عبدالناصر، إلا أن شهادات موثقة لقيادات إخوانية تقطع بتورط الجهاز الخاص في التدبير لعملية الاغتيال، وأماطت اللثام عن حقيقة الوجه الإرهابي لهذه الجماعة وكشفت بالملموس عن طبيعة هذا التنظيم الدموي العنيف.

شهادة يوسف القرضاوي:

يعترف يوسف القرضاوي، القيادي الإخواني وعضو التنظيم الدولي للإخوان المسلمين والرئيس السابق لمن يطلق على نفسه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في مذكراته «ابن القرية والكتاب» بمسؤولية «خلية من الإخوان» يتزعمها هنداوي دوير في محاولة الاغتيال، وهو الاعتراف الذي أكده في معرض حديثه لأحد البرامج التلفزيونية بالقول: «الذي أراه أن هذا الأمر مسؤول عنه هنداوي دوير ومجموعته من أربعة أو خمسة أشخاص وهم الذين دبروا هذا الأمر».

ويواصل القرضاوي شهادته، التي تعتبر صك اتهام للتورط المباشر للإخوان في حادثة المنشية، بل وتَورُّطِه هو شخصيا في الجريمة عبر علمه بها وعدم التبليغ عنها، أو على الأقل محاولة إيقافها، فيقول «ولم يفكر المحامي الذكي المعجب بنفسه (يقصد هنداوي دوير)، ما العمل إذا أخفق هذا الحل، وفشلت هذه الخطة؟ لم يسمح لنفسه أن يفكر في الوجه المقابل، بل افترض النجاح أبداً» (مذكرات يوسف القرضاوي: ابن القرية والكتاب. ج 2 ص 54). من هذا المنطلق، يتبين أن موقف القرضاوي من محاولة اغتيال عبد الناصر لم يكن مرتبطا بمدى شرعية عملية الاغتيال أم لا، بقدر ما هو مرتبط بصعوبة نجاح العملية والآثار الخطير التي ستترتب عنها في حالة فشلها.

شهادة أحمد رائف:

يُطلق عليه لقب «مؤرخ الإخوان» وقد ألف مجموعة من الكتب أهمهما على الإطلاق كتاب «البوابة السوداء» و«سراديب الشيطان» واللذان حاول من خلالهما رائف التأكيد على أن حادث المنشية هي من وحي تدبير عبدالناصر نفسه. غير أن المؤرخ الإخواني سيعود بعد سنوات طويلة ليدلي بالحقيقة التاريخية حول الحادث فيما يشبه صحوة ضمير ويعترف بضلوع الإخوان في حادثة الاغتيال. وفي هذا الصدد يقول أحمد رائف للصحفي صلاح الدين حسن في حوار نُشر على جريدة «الدستور» المستقلة: «إن أول من نبهني إلى أن حادث المنشية ليس مفبركا هو حسن الهضيبي عندما التقيت به في السجن عام 1965، وحين تتبعت خيوط كل من له علاقة بهذه القصة، وصلت إلى أن الإخوان دبروا محاولة القتل. أما فكرة أنها تمثيلية فهذا مما يستهوي الإخوان حتى تظهرهم بمظهر المجني عليهم والمغلوبين على أمرهم».

شهادة فريد عبد الخالق:

يعتبر فريد عبد الخالق من قيادات الصف الأول في جماعة الإخوان ومن الرعيل الأول للتنظيم بل وممن جاوروا حسن البنا لمدة طويلة وعاصروا جميع حوادث الاغتيال وجميع المحن التي مر منها الإخوان (توفي يوم 12 أبريل 2013 عن سن يناهز 98 سنة). ولقد أكد عبد الخالق، في شهادته للموقع الإعلامي «العربي»، أنه علم بالتحضير لمحاولة الاغتيال سنة 1953 عن طريق تحرك فردي لبعض رجال الإخوان وأن هذه التحركات كانت تهدف لاغتيال جمال عبدالناصر.

في الحلقة القادمة سنواصل سرد باقي الشهادات التي تقطع بمسؤولية الإخوان في محاولة اغتيال جمال عبد الناصر وتفضح البنية السلوكية الدموية لأتباع حسن البنا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى