مقالات الرأي

كيف تحول الإسلام جزءًا من سياسة «أردوغان» الخارجية؟

أحمد نظيف

اقترن الحديث عن الإسلام في فرنسا دائماً بالمسلمين المغاربة، حتى أنه اعتُبر قضية خاصة بين فرنسا ومستعمراتها القديمة في الشمال الأفريقي. لكن هذه النظرة النمطية ما لبثت أن تبددت خلال السنوات الأخيرة في ظل صعود قوي للمسلمين الأتراك باعتبارهم لاعباً مهماً في المسألة الإسلامية الفرنسية، سواء من حيث التواجد داخل الهياكل التمثيلية للمسلمين أو من خلال الحضور في خطابات السياسة الخارجية التركية، وأساساً خطاب الرئيس رجب طيب أردوغان، في صراعه مع الأوروبيين.

بيد أن هذا الصراع قد أخذ في السنوات الأخيرة منحى تصاعدياً في أعقاب الهجمات التي تعرضت لها فرنسا في مدينة نيس وقبلها حادثة ذبح المدرس صامويل باتي خريف العام الماضي، حتى أن وكالة الأنباء الرسمية التركية وصفت ردود الفعل الفرنسية على الهجمات بأنها «استعادة لأحقاد الحروب الصليبية للتحريض ضد المسلمين» فيما استغل الرئيس التركي الأحداث ليؤدي دور حماية المسلمين والكلام باسمهم. وخلال هذا الصراع برزت بقوة الهيئات التمثيلية للمسلمين الأتراك والجالية التركية عموماً في فرنسا كإحدى أدوات الحرب الكلامية والإعلامية بين باريس وأنقرة، وظهرت كأنها أوراق قوية في يد الرئيس التركي في معركته ضد إيمانويل ماكرون.

في المقابل برز العديد من الأصوات داخل الصحافة الفرنسية وحتى من الأحزاب، مطالبةً بضرورة كسر التأثير التركي على المساجد والجمعيات الإسلامية داخل فرنسا، محذرة من أن أردوغان وحزبه قد عملا على إختراق الساحة الإسلامية الفرنسية منذ سنوات من خلال حزمة سياسات استغلت قوانين العلمانية الفرنسية التي تمنع على الدولة تمويل أو توجيه أو التدخل في نشاط الجماعات والجمعيات الدينية.

لا يمتلك الأتراك في فرنسا نسخة مختلفة عن الإسلام السنّي السائد، غير أن مصطلح «الإسلام التركي» قد راج في الأوساط الصحافية والإعلامية الفرنسية باعتباره مسمى سوسيولوجياً وليس عقائدياً، لاعتبارات عدة موضوعية، أهمها العزلة التي عرف بها المسلمون الأتراك عن بقية المسلمين داخل فرنسا. فالإسلام الفرنسي، إن صح التعبير، يتجلى في العديد من التعبيرات العرقية والمناطقية، فإلى جانب الإسلام التركي نجد «الإسلام المغاربي» و«الإسلام الأفريقي». وثاني هذه الاعتبارات هو ارتباط المساجد والمنظمات الإسلامية التركية في فرنسا بالدولة التركية عضوياً وإدارياً، إلى جانب عامل شديد الأهمية كرس عزلة الأتراك عن بقية المسلمين وهو اللغة. فاللغة التركية هي السائدة داخل مساجد الأتراك على خلاف بقية المجاميع الإسلامية المغاربية والأفريقية.

تقدر أعداد الجالية التركية في فرنسا، بما فيهم الفرنسيون المتحدرون من أصل تركي، بحوالى 700 ألف شخص، يتركز وجودهم في منطقة الشرق وتحديداً في مدن ستراسبورغ ومولوز، وهم امتداد للوجود التركي في ألمانيا وكذلك في الحوض الباريسي. وتدير هذه الجالية الكبيرة بين نحو 350 مسجداً من أصل 2500 مسجد في عموم فرنسا، كما تقوم رئاسة الشؤون الدينية التركية المعروفة اختصاراً بـ«ديانات» بتوظيف 151 إماماً تركياً في هذه المساجد وتدفع أجورهم مباشرة من تركيا، كما يتلقون تدريباً وتعليماً في مدارس دينية تركية. كما تعتمد هذه المساجد على تمويلات سخية من الطبقة البورجوازية التركية في فرنسا، التي تعمل في قطاعات السفر والمقاولات والمطاعم وقطاع الخدمات، والتي شكلت خلال السنوات الأخيرة شبكة علاقات ومصالح مع الطبقة الحاكمة التركية وأصبحت أحد أهم روافدها الخارجية والمالية. غير أن هذه الجالية الكبيرة تتوزع على أكثر من هيئة تمثيلية مختلفة التوجه، بل إن بعضها منظمات عرقية تحمل خطاباً أقرب إلى التوجه الفاشي منها للتنظيم الديني، ولكنها تحاول الجمع بينهما.

ظلت المنظمات الممثلة للمسلمين الأتراك على اختلاف توجهاتهم السياسية والطائفية إلى حدود العام 2002، تاريخ صعود حزب «العدالة والتنمية» للحكم في تركيا، مستقلة عن الدولة التركية، بخاصة في مستوى التوجهات، على خلاف بقية التمثيليات الإسلامية المغاربية والأفريقية في فرنسا، والتي عاشت وما زالت على وقع صراع نفوذ دول المغرب العربي.

مع صعود أردوغان إلى السلطة بدأت حكومة «العدالة والتنمية» في إعادة ترتيب أوضاع جاليتها الأوروبية باعتبارها أوراق ضغط في يدها ضد الدولة الأوروبية في سياق محاولات الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي والتي انتهت كلها بالفشل. فقد بدأت منذ العام 2005 بوضع شخصيات موالية لها على رأس هذه المنظمات، أبرزها أحمد أوجراس، الفرنسي – التركي القادم من عالم المال. ثم بدأت في تجسير الهوة بين اللجنة التنسيقية لمسلمي تركيا في فرنسا ومنظمة «ميللي غوروش»، بعد عقود من الصراع، حيث أصبحت المنظمتان تسيطران على تسعين في المئة من المؤسسات التابعة للمسلمين الأتراك.

هذا التحول الجذري في التعامل مع الهيئات التمثيلية التركية في فرنسا من طرف الدولة التركية في أعقاب صعود حزب “العدالة والتنمية” للحكم (2002) لم يكن – كغيره من السياسات – نتيجة مصادفة. ولم يكن الدعم السخي الذي تبذله أنقرة لهذه الهيئات إلا سياسة طويلة الأمد لبناء جماعات ضغط تحمل فكرة “العدالة والتنمية” القائم على الجمع بين القومية التركية والإسلام السياسي، في نسخة أشبه بالعثمانية الجديدة، كي تكون سلاحاً بيدها للضغط على الدول التي يقيمون فيها ومن بينها فرنسا.

سياسات توظيف الحضور التركي في بعديه القومي والديني من طرف حكومة “العدالة والتنمية” ليست حكراً على فرنسا، إلا أن العلمانية الفرنسية دائماً ما تنتفض دفاعاً عن تجاوز خطوط تعتبرها حمراء من قبيل افتتاح مدارس إسلامية تركية أو مسارات تدريب الأئمة في تركيا وغيرها. لكن هذه السياسة التركية التي حولت جماعة المسلمين من جاليات مهاجرة لأسباب اقتصادية إلى جماعات ضغط تبدو معممة على أغلب الدول الأوروبية، فالحال في ألمانيا تقريباً مثل فرنسا أو أكثر وكذلك الحال في باقي أوروبا الغربية والبلقان.

لكن هذه السياسة الموجهة نحو القارة الأوروبية ليست إلا جزءاً من سياسة كبرى ضمن أطروحة إستعادة النفوذ العثماني القديم التي يتحرك على ضوئها الرئيس أردوغان وحزبه، وتقوم على استنهاض الشعور القومي التركي في كل مكان وحيث ما وجد أتراك أو مواطنون لدول أخرى من أصول تركية، ولعلنا نلاحظ إهتمام تركيا بليبيا من خلال مدينة مصراته وسكانها من ذوي الأصل التركي، وكذلك لأنها ولاية عثمانية سابقة. واهتمامها بالتركمان في سوريا والعراق ومحاولتها اختراع كيانات خاصة بهم ضمن خرائط الدول العربية واهتمامها بقضايا الإيغور في الصين لاعتبارات عرقية.

إلى جانب البعد القومي في هذه الأطروحة الإستعادية، فهي تقوم على جانب إسلامي حركي يلتقي في جوانب كثيرة، سياسية وعقائدية مع جماعة «الإخوان المسلمين»، حيث أصبحت تركيا تشتغل مع الجماعة جنباً إلى جنب في أكثر من ساحة وعلى أكثر من جبهة من بينها ساحة الجاليات المسلمة.

نقلا عن صحيفة النهار

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى